المكتبة

رحلة تهجير ولجوء وحب ضائع.. وحنين

رحلة تهجير ولجوء وحب ضائع.. وحنين

أنهى الضابط كلامه ولم ينتظر الاستماع لتساؤلات البعض وتوسلاتهم، وامتطى ظهر جواده وما ان استوى عليه حتى تذكر شيئا فزأر بصوت مرعب قائلا: عليكم ترك كل دوابكم وماشيتكم، والمغادرة مشيا، فهذه أملاك السلطنة، وأنتم لستم منها… وما هي إلا ثوان حتى ارتفعت الهمهمات لتتحول إلى نحيب ثم صوت بكاء يقطع القلب، وعاد الجميع إلى بيوتهم مطأطئي الرؤوس، كل يفكر في المصير الأسود الذي ينتظره..».

بهذه الكلمات التي تقطر إحساسا بالظلم والقهر وتستدعي من ذاكرة القارئ العربي أحداث قضية العرب «المركزية»، القضية الفلسطينية، وتحاكي مآسي يندى لها الجبين ويشيب لها الوِلدان لا تزال وقائع بعض فصولها تثير غبار الغبن والضياع في محيط منطقتنا والعالم، بهذه الكلمات عبر والد بطل رواية «عبداللطيف الأرمني والتفاحات الثلاث» للكاتب أحمد الصراف عن رؤيته لما قال إنه حدث مع كثير من الأرمن وما تعرضوا له على يد السلطة العثمانية من مذابح مرعبة ومصادرة الأملاك من دون تفريق وتشريد وتصفية عرقية.

لكن هذه الفكرة وإن كانت خطا رئيسيا في الرواية لم تكن أبدا الوحيدة التي امتدت بشكل أساسي على طول مسار القصة. فقد جاءت الرواية بأجزائها الأربعة ثرية بمجموعة من المقاربات القيمية والاجتماعية والسياسية قامت على خطوط فلسفية متشابكة ومتقاطعة.

وفيما امتد مسرح أحداث الرواية بين حلب السورية والعراق والكويت، كان للمجتمع الكويتي والأحوال بالكويت في خمسينيات القرن الماضي وما تلاها نصيب وافر من التناول من خلال وجود البطل في الديرة بعدما جاءها من بغداد بحثا عن سعة في الرزق وتيسير في الحال والمآل.

وتجسدت المعاناة كذلك بشكل ممتد جيلا بعد جيل بدءا من والد البطل سيرج بازليان مرورا بالبطل كالوست الذي أكمل مسيرة الهجرة والشتات وصولا في النهاية إلى ابن حفيدة عمته التي خطفها قطاع الطرق بينما لا تزال طفلة في مقتبل عمرها. كما تجسدت في القصة ايضا مآسي التهجير واللجوء والحب الضائع للوطن المفقود والحبيبة التي غيبتها قسرا أحداث القهر وكذا الزوجة المفتقدة بفعل صعوبة الأحوال ونقص الأموال وضيق ذات اليد.

وقد تناول الكاتب من خلال الرواية التي صدرت عن الدار العربية للعلوم «ناشرون» في نحو 175 من القطع المتوسط مجموعة من الأفكار والمشاعر الإنسانية في سرد لمجموعة من الأحداث التي مر بها البطل ووالده في مزج بين أسلوب الرواية وتسجيل أحداث تاريخية لكن من زوايا إنسانية تنقل القارئ إلى مسرح هذه الوقائع ليتعاطف مع الأبطال وما وقع لهم من مآس.

اما معاناة البطل كالوست فقد بدأت بالرحيل الأول عن مدينة حلب التي ولد فيها ولم ير وطنا غيرها حتى ذلك الحين، ولكنه عاش فيها ايضا غريبا يزرع أبوه في نفسه حنينا إلى وطن في عنتاب (التي أطلق عليها الأتراك لاحقا غازي عنتاب) لم يره إلا في ذكريات والده.

رحل كالوست من هذه الغربة التي أبت إلا أن تلازمه ليحملها معه لغربة أكبر في العراق، حيث بقي لسنوات قليلة قبل أن ينتقل إلى مجتمع الكويت الذي رآه أكثر غرابة، حيث الناس يأكلون «الجراد المطبوخ في صفائح تنك موضوعة على مواقد نار تحتوي على ماء مغلي» وراعه الإقبال الكبير على هذه الوجبة، ليكون بعد ذلك «أول أرمني يأكلها في التاريخ ويستلذ بطعمها».

وأعاد الصراف إلى واجهة الأدب ما أثير مرارا عن القضية الأرمنية، وهو ما تجلى بأقسى صوره فيما رواه والد البطل في الجزء الأول من الرواية عند حديثه، عبر مذكرات يقرأها البطل كالوست، عن إجباره والكثيرين من الأرمن على ترك قريتهم في عنتاب بتركيا، ليخرج في رحلة مأساوية إلى حلب عبر تل أبيض، لتكون النتيجة أنه فقد أبويه واخته الصغيرة «آنيت» إلى الأبد، وضاع منه حبه بعدما فقد أثر زوجته المستقبلية «هرمين».

كما توضح مذكرات سيرج بازليان التي أعطاها لابنه كالوست عندما قرر الرحيل عن حلب لتكون نبراسا يهديه إلى التمسك بوطنه الأم وقوميته وربما يعيده إلى دينه الذي غيره حتى يتزوج من فتاة مسلمة، توضح كيف عاش الأب في تل أبيض حيث عمل في تجليد الكتب قبل أن يتعرف على أرمني آخر يدعى فاهيه ويقرران الانتقال إلى حلب والتشارك في مشروع جديد، حيث يتعرف على قصة فاهيه التي توضح الكم الكبير من الفساد في يريفان عاصمة أرمينيا، كاشفة عن شيوع الفساد الضارب بجذوره في كل مكان.

في واقعة توحي بالاعتزاز بالعرق وسيطرة الأفكار القومية على الذات وإشغالها عن كل ما سواها حتى لو كان فلذات الأكباد، كما تكشفها أوراق الأب التي كتبت بأقلام وألوان حبر مختلفة وعلى مراحل زمنية متباعدة، يواجه الصدمة الكبرى في حياته عندما أعلمه ابنه كالوست برغبته في الزواج من فتاة مسلمة، لكن المثير أنه يبدو أن حزنه وشعوره بالعار لم يكن بسبب تغيير العقيدة بقدر ما كان نتيجة قلقه على صورته أمام أقرانه! تتوالى الأحداث بعد ذلك عبر مسار حركة البطل من حلب إلى بغداد قبل أن يقرر الانتقال إلى الكويت.

يتناول الجزء الثاني من الرواية صداقة 4 شباب كويتيين في مرحلة المراهقة دونما التفات إلى أي فروق مادية أو اجتماعية أو مذهبية.

يحكي هؤلاء الشبان المقبلون على الحياة حكايات عن مغامراتهم الغرامية في مدينة عبادان الإيرانية، ويلتقون كالوست بعد وصوله إلى الكويت والذي أصبح يدعى عبداللطيف الأرمني.

بعد ذلك تعود القضية الأرمنية إلى الواجهة مرة أخرى، حيث يتحدث عبداللطيف الأرمني إلى الشباب الأربعة ويحكي لهم عن تحوله مضطرا إلى الإسلام، ويقرر أن يتبنى قضية شعبه، تماما كما فعل مدرسه الفلسطيني الذي حمل هموم قضيته إلى كل موضع لتبقى حية وتكون في قلب مستمعيه.

في الجزء الثالث من الرواية بعدما فرقت الحياة الشباب الأربعة وباعدت بينهم وبين البطل تظهر شخصية رجا سائق سيارة الأجرة في المطار والذي يلتقي عبداللطيف الأرمني بالمصادفة لتكون بينهما صداقة ثم تتوالى الأحداث ويطور رجا من نفسه قبل أن يبحث عن زوجة في العراق، تكشف الوقائع بعد ذلك من هي ومن أهلها.

في الجزء الرابع ومع اقتراب الرواية من نهايتها يقع ابن رجا في مأزق يكون ناصر، وهو أحد الشباب الأربعة، السبب في كشفه، قبل أن تتكشف مجموعة من الأمور المثيرة وتنتهي الرواية بحادث مأساوي.

مقتطفات من الرواية

٭ «نقول في الفلكور الأرمني قبل أن نروي أي حكاية: سقطت يوما من السماء ثلاث تفاحات: الأولى لمن يروي الحكاية، الثانية لمن ينصت لها والثالثة لمن يفهم مغزاها»

٭ «عندما نفكك كل لحظات حياتنا لأجزاء أصغر نصاب بالصدمة من كل ما أضعناه من وقت في التافه من الأمور، وفي تكرار الأخطاء نفسها».

رحلةمن التشويق والإثارة رغم المآسي والملمات

جاء مضمون الرواية ثريا تقاطعت فيه الخطوط الإنسانية مع تباين انتماءاتها وتوجهاتها لتشكل نسيجا تربطه المآسي والملمات أحيانا وتقارب الأمزجة والتوجهات أحيانا أخرى.

كما اتسمت الأحداث بالتشويق لتقربها صبغتها التاريخية أكثر وأكثر من الواقعية وتجذب القارئ وتزيد من شغفه للمتابعة لمعرفة مصير الأبطال بل مشاركتهم معاناتهم والتعاطف معهم أيضا. أما أسلوب السرد فجاء سلسا ومترابطا دونما مط أو تطويل يسبب الملل أو إيجاز مخل يوجد فجوات في مسار الأحداث.

كما جاء مسرح الأحداث ممتدا في توزيع جغرافي غني ومتسع زاد من عناصر المتعة والتشويق مع رحلة يخوضها القارئ في ذهنه من تركيا إلى سورية إلى العراق وصولا إلى الكويت، دليله فيها وصف رائع لجغرافيا وديموغرافيا مواقع الأحداث.

دعم ذلك رسم دقيق للشخصيات لتنبئ كل شخصية عما تمثله من جنسية أو عرق أو شريحة اجتماعية هنا أو هناك ولتكشف جميعها عن المعاني الإنسانية التي تتخطى الحدود وتسمو فوق الاختلافات الدينية والعرقية والمذهبية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

إغلاق