الإنصات هو العلم الأصعب من علم الكلام، فهو أصل العقل وأساسه ورائده، بحسن الاستماع والانتباه والاهتمام للمتحدث، ومن لا يملك خلق الانصات لا يجد فن الحديث، ومن لم ينشط لحديثك فارفع عنه مؤونة الاستماع منك، ومن لا يجتهد في المحال لا يصل الى اليقين، فإذا جالست العالم فأنصت، وإذا جالست الجاهل فأنصت، ففي إنصاتِك للعالم زيادة علم، وفي إنصاتك للجاهل زيادة حِلم، وصن سمعك عـن سماع القبيح؛ كصون اللسان عن النطق الوضيع، فإنك عند سماع القبيح للفضائل تستبيح، وتكون مع قائله بالفعل شريك شنيع.
افسِح مكانا وانصت الى من هو أهل ليتربع عرش قلبك، ومن يستحق أن يكون لك السكن، والمرسى، والوطن، وتعلم كيف تصغي الى صوتك الداخلي، وكيف تسيطر عليه، ليكون زائرا خفيف الحلّ، حتى لا يتحول إلى رفيق دائم ثقيل الظل ينتقد كل شيء فيك، وعدو يضعف من شجاعتك ويجعل الأمور تبدو سيئة بشكل مبالغ فيه، ولا تتعوَّد الاصغاء لصوت الآخر في كل حالاتك، عندها ستخرس بداخلك صوت الأنا الحرة، وتطفئ وهج أفكارك المستنيرة قبل أوان إشراقها، وتقتلع جذور تاريخك من دفائن نفسك، قبل امتداد أصوله وفروعه، وقبل أن تنمو براعمُك، وتترعرع في ذاكرتك وتعبر عنها تزهر افكارك ازهارا.
اقتصر بكلامك على قدر الحاجات، وبالقدر النافع من الإجابات، وقل رأيك بما يتناسب مع السياق في الموضوع والوقت والقدر والموقف المناسب وبالطريقة المناسبة، وضع الأشياء مواضعها، وانزل الأمور منازلها، واجعل صمتك حكمة، تترك لآثارها إشراقات تغيير وفلاح، وتحثُّك على الفعل الملتزم والصلاح، والتأنّي في التفكير اللماح، والتعبير الصادق الصراح، وحسن التدبير من بعد مخاض بين تجاذبات العقل والإحساس والشعور، فالأفعالُ الحسنة أبلغ من الكلام البديع، والأثر الطيب أبلغ من المقال الآسر للقلب الصبيح، ولا تكن ممن يهذي بالكلام؛ حتى لا تضيع أحلامك، فأغلب من يُفرط في الثرثرة، وتقديم الوعود الزائفة، قلما يُطبّق أو يمارس أقواله سلوكا ومعاملات.
الزَم الصمت؛ فما أكثر الكلمات التي ينطقها اللسان في ساعات الضيق والضجر، وعند الشدائد والمحن، وفي لحظات الشعور بالهيجان والغضب، وهي تنطلق كالسهام المسمومة، تُفسد القلوب، وتثير الأحقاد، وتعكّر صفو المحبة والوئام، وتقطع شريان الوداد، وتمزق أواصر الأخوّة بين الأفراد والجماعات، وما أكثر الكلمات التي لم يلجمها أصحابها بلجام العقل والحكمة، فأوقعتهم في مساقط التّيه والزلل، وخوارم المروءة، فهلكوا وأهلكوا، وعاثوا فسادا وإفسادا في الأرض، وما أكثر الكلمات التي تتلاشى وسط الضوضاء والضجيج، وتفقد قيمتها وسط هدير الأصوات المرتفعة، والصرخات المجلجلة، وما أكثر المعاني التي تنفرط من عقد الالتزام، ويخبو بريقها الوهاج، وتنطفئ شعلتها الموقدة وسط السرج المعتمة!
توقّف عن الحديث حين تشعر أن استمرارك في الحوار والنقاش سينحرف بك عن الطريق الصحيح، والمنهج القويم، ولا ينسجم مع ذوقك الراقي، وأسلوبك ولغتك، واختياراتك للكلمات الأنيقة، أو حين لا يرقى الحوار والنقاش إلى مراتب القمة، في الذوق الإنساني، والسمو في التواصل الحضاري؛ فللحديث ضوابط وشروط، وللحديث آداب وأخلاق، كما للحوار والنقاش مراتب ومقامات، إما أن ترفعك إلى الأعلى، أو تسقُط بك إلى قاع الحضيض؛ فكُن مع من يرفعك إلى القمة، ولا تكن مع من يسقُط بك مِن القمة إلى السفه والسخف والتيه.
حجاج بوخضور